اللغة الفصحى... ما ذلّت لغة شعب إلا ذَلَّ

تاريخ النشر: 2017/08/20


وصية للجد كانت كفيلة بالتزام ثلاثة أجيال في العائلة بالعربية الفصيحة يغرد الأطفال فيها حتى في لعبهم، إذ عاصر الجد الاحتلال الفرنسي في سوريا، و الانجليزي في فلسطين،  ودفعه خوفه على هوية وثقافة الأمة تحت الاستعمار إلى دعوة أبنائه إلى التمسك باللغة العربية.

خاص - أسماء رجا

المكتبة الكبيرة في المنزل دائمة التجدد كانت طريق العائلة لجعل العربية مصدرا متاحا دائما لاستقاء المعرفة، حفظ الشعر وإلقاؤه،  إحياء مساءات الصيف بمناظراته كانت كما تقول أسماء تشعرها " بأن اللغة حية ومستخدمة " .

أسماء القارئة النهمة، دعمها تمسكها باللغة العربية السليمة التي نقلتها لأبنائها كما نقلها إليها والديها، إلى أن تصبح لغة التخاطب الرسمية في البيت، في الوقت الذي قد يلتقط أبنائها بعض الكلمات العامية من خارج المحيط.

وفي مجتمع غلبت فيه اللغة العامية المحكية كان أكثر ما يزعجها سؤال الناس لها عن اصلها  "هل أنت تركية أم فرنسية أم جزائرية؟" مستهجنين حديثها مع أبنائها بالفصحى!

اللغة العربية الأكثر أنتشاراً بالعالم

هذه المشكلة تواجه من يتحدثون اللغة الفصيحة ، ورغم أن اللغة العربية تعد أكثر اللغات تحدثاً ونطقاً ضمن مجموعة اللغات السامية، وإحدى أكثر اللغات انتشاراً في العالم، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة/ ويستعملها بليون مسلم ،الا أنها تشهد ازدواجية سواء مع اللغة العامية او مع لغة أجنبية اخرى كالإنجليزية ، بشكل أسهم في تراجعها وسط تحذيرات ومخاوف من اندثارها مع مرور الوقت .

يقول علماء اللسانيات إنه يوجد  ما بين 5000 و6000 لغة  وتشير الإحصائيات العلمية أن ما بين 250 و 300 لغة تنقرض سنوياً بفعل سرعة التواصل والميل إلى استعمال اللغات العالمية الأكثر فاعلية/ فيما أشارت منظمة اليونسكو في أحد تقاريرها  أنّ عدداً من لغات العالم مهدّدة بالانقراض، ومن بينها اللغة العربية.

اللغة الفصحى محفوظة

رأي يخالفه الدكتور عبدالله الخطيب المتخصص في الأدب الحديث "حيث أن اللغة العربية لغة القران الكريم  المحفوظ  بأمر الله من الاندثار اضافة الى أنها لغة زاخرة بالمعاني العميقة حية قادرة على التكيف مع المستجدات وقادرة على التفاعل مع المنجزات الحديثة ".

 

وترى عميدة كلية الآداب في الجامعة الهاشمية والمتخصصة في علم اللغة والنحو الدكتورة خلود العموش أن هنالك حالة من الجفاء بين النشء ولغتنا العربية السليمة ، "إذ أن النشء يغرق في بحر العاميات وفجأة يفترض فيهم أن يقرأوا ويكتبوا ويتحدثوا بالفصحى في المدرسة ومواقف الحياة الرسمية ما يجعل من الفصيحة معضلة كبيرة بالنسبة إليهم إرسالا وتلقيا "،كما " أن الفصيحة محكومة بقواعد الضبط والاعراب بينما تتفلت العامية على كثير من هذه القواعد، وهو الأمر الذي جعل تفاعل النشء مع النصوص العليا في تناقص مستمر كالتفاعل مع كتاب الله وحديث نبيه الكريم ونصوص الأدب شعرا ونثرا " وفق ما تقول.

وبينما يقر الدكتور الخطيب بهذه المشكلة إلا أنه لا يجد أن اللهجة العامية تهدد اللغة الفصيحة على مستوى الحديث العام، لأن من الطبيعي أن تكون لهجة الشارع عامية، ومختلفة عن لغة الشعر و الكتابة.

ذكر العديد من الباحثين في هذا المجال أن  السياسات اللغوية للدول العربية تميل إلى تفضيل اللهجات العامية واللغات الأجنبية في مجالات الحياة المختلفة كالإعلام والتعليم، بل  وتشجّع العاميّة في الإذاعة والتلفزة ولا تمنعها أو تقلل منها، اضافة إلى عدم وجود  سياسات لغوية مُعلَنة في الدول العربية بهذا الخصوص، ما عدا ما ورد في دساتيرها من أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد.

يذهب الدكتور الخطيب مع هذا الرأي ، حيث يمكن ان تهدد اللغة العامية اللغة العربية الفصيحة في حال انتقلت الى مجالي الكتابة و الاعلام، " الإعلام هو البوابة الاولى لتهديد اللغة العربية الفصيحة لأنه يوظف العامية بصورة كبيرة ، ويمكن لها أن تنخر في عمود اللغة العربية الفصيحة .

الفصحى محط للسخرية؟

تروي مرام ، أم عاملة، كيف تسعى جاهدة لتعليم أبناءها التحدث باللغة الفصيحة إلا أن  المشكلة تواجهها في المدرسة والمجتمع، فكلاهما تغلب عليه العامية "أبنائي يتعرضون  للاستهزاء والسخرية من زملائهم في الصف  ومن أقاربهم عندما يتحدثون الفصيحة ، لذا أحاول  تعزيز صمودهم بمطالعتهم الكتب  وحضور المسرحيات  الثقافية وخوض المسابقات الشعرية " .

هذه الازدواجية في اللغة التي يواجهها النشء وفق ما تقول الدكتورة العموش موجودة في معظم لغات الدنيا لكن الأمر بالنسبة الى العربية يأخذ شكل " الفصام النكد" بسبب ضعف التدابير المتخذة في هذا الشأن، مشيرة الى "أن اللغة مسؤولية كل فرد ومؤسسة من  المجمع والجامع ومؤسسات التربية وأجهزة الاعلام والمنظمات الثقافية والنخبة وبسطاء الناس، والناشر والكاتب والقارئ والمدرس ".

بينما يرى الدكتور الخطيب أنه " من الطبيعي أن يتعلم النشء  اللهجة العامية لانه يتعلمها في بيئتها الطبيعية؛ أمه وأبوه وأصدقائه وأقاربه، والطفل في مرحلة ما قبل المدرسة  لديه هدف محدد  بأن يلعب  وأن يتفاعل مع المجتمع المحيط به ،وهو يتعلمها  بصورة طبيعية ".

إلا أن المشكلة  من وجهة نظر الخطيب تبدأ بمواجهة الطفل منذ دخوله المدرسة"المعلم ابتداءا لا يستخدم اللغة العربية الفصيحة  إلا في أوقات قصيرة جدا هذا في حال انه استخدمها في حصة اللغة العربية وهي لا تكفي لتعلم الطفل ، كما أنه  يتحدث العامية إذا أراد أن يشرح درسا في الرياضيات او العلوم ، اضافة إلى أن طرائق تعليم اللغة العربية عاجزة عن جذب الطفل لتعلم اللغة العربية من نحو وصرف وعروض وهذه المشكلة يتحملها المنهاج المدرسي ".

يجمع علماء السياسة والاجتماع على أن اللغة مكوّن رئيس من مكونات السيادة والاستقلال الوطني، وأن مكانة الأمة بين الأمم تقاس بمكانة لغتها، يقول مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون في مقدمته " إن غلبة اللغة بغلبة أهلها وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم" ، وهو ما أشار إليه أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي عندما قال" ما ذلّت لغة شعب إلا ذَلَّ، ولا أنحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار"؛

المشروع الوطني للدفاع عن اللغة العربية

في الوقت الذي تتعرض به اللغة العربية لحالة من الإزدواجية والضياع، وقف الدكتور بلال التل وثلة من الغيورين على لغة الأم إلى إيجاد مشروعا ً يدافع به عن اللغة.

 يسعى المشروع إلى تعزيز المنظومة التشريعية الحامية للغة العربية من خلال التقدم بمشروع قانون لحماية اللغة العربية تم إقراره بعد متابعة الفريق مع ثلاث حكومات متتالية ، تواصل المشروع مع الكثير من الجهات التي تنص قوانينها على حماية اللغة العربية خاصة قانون تسجيل الاسماء التجارية وقانون الشركات التي  تنص  في بعض بنودها  أن تكون أسماء الشركات والمحال التجارية و المواد الدعائية بالعربية الفصيحة، وفق ما يؤكد التل ، مشيرا إلى " أن هذه التشريعات  لا يجري احترامها وتنفيذها ، وأن كل جهة من الجهات الرسمية تلقي بالمسؤولية على جهة الاخرى من الجهات المناط بها تنفيذ القانون .

كما عمل المشروع على التواصل مع المؤسسات الاعلامية والجامعات الرسمية التي فيها كليات آداب واقسام لغة عربية حتى يكون هنالك جهد وطني متكامل لدفع الاهتمام أكثر وأكثر  باللغة العربية.

ويعتبر التل هذا الجهد غير كافٍ ، مرجعا المشكلة إلى عدم احترام النصوص التشريعية من قبل المؤسسات والافراد ومخالفتهم  الدستور  الذي ينص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد، "إذ أن الجهات المعنية بتنفيذ قانون حماية اللغة العربية لا تنفذ القانون الذي فيه مواد كثيرة تنظم آلية احترام اللغة العربية وتفرض عقوبات على من يخالف ذلك" .

ومع اهمية جميع الجهود المبذولة من مؤسسات أو مبادرات يبقى الحمل الأكبر في تعزيز وجود وحياة اللغة العربية على عاتق مؤسستي التعليم والاعلام .


ِمشاركة


ﺇﺻﻨﻊ ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻚ ﺍﻟﻤﻬﻨﻲ ﻭﻛﻦ ﺃﺣﺪ ﺻﻨﺎﻉ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﺍﻟﻌﺎﻡ
!ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻣﻮﻗﻌﻨﺎ